سورة الشعراء - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


كما رجع السياق القهقرى في التاريخ من قصة موسى إلى قصة إبراهيم، كذلك يرجع القهقرى من قصة إبراهيم إلى قصة نوح. إن الخط التاريخي ليس هو المقصود هنا، بل المقصود هو العبرة من نهاية الشرك والتكذيب.
وقصة نوح، كقصة موسى وقصة إبراهيم، تعرض في سور شتى من القرآن. وقد عرضت من قبل في سورة الأعراف في الخط التاريخي للرسل والرسالات بعد هبوط آدم من الجنة عرضاً مختصراً، يتلخص في دعوته قومه إلى التوحيد، وإنذارهم عذاب يوم عظيم، واتهام قومه له بالضلال، وعجبهم من أن يبعث الله إليهم رجلاً منهم، وتكذيبهم له. ومن ثم إغراقهم ونجاته هو ومن معه بدون تفصيل.
وعرضت في سورة يونس باختصار كذلك في نهاية رسالته، إذ تحدى قومه فكذبوه.. ثم كانت نجاته ومن معه في الفلك، وإغراق الآخرين.
وعرضت في سورة هود بتفصيل في قصة الطوفان والفلك وما بعد الطوفان كذلك من دعائه لربه في أمر ابنه الذي أغرق مع المغرقين. وما كان بينه وبين قومه قبل ذلك من جدال حول عقيدة التوحيد.
وعرضت في سورة المؤمنون فذكر منها دعوته لقومه إلى عبادة الله الواحد، واعتراضهم عليه بأنه بشر منهم يريد أن يتفضل عليهم؛ ولو شاء الله لأنزل ملائكة، واتهامه بالجنون. ثم توجهه إلى ربه يطلب نصرته. وإشارة سريعة إلى الفلك والطوفان.
وهي تعرض في الغالب في سلسلة مع قصص عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين وكذلك هي في هذه السورة وأظهر ما في الحلقة المعروضة هنا دعوته لقومه إلى تقوى الله، وإعلانه أنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى، وإباؤه أن يطرد المؤمنين الفقراء الذين يستنكف منهم الكبراء وهذا ما كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة سواء بسواء ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه. واستجابة الله له بإغراق المكذبين وتنجية المؤمنين.
{كذبت قوم نوح المرسلين}..
تلك هي النهاية. نهاية القصة. يبدأ بها لإبرازها منذ البداية. ثم يأخذ في التفصيل.
وقوم نوح لم يكذبوا إلا نوحاً. ولكنه يذكر أنهم كذبوا المرسلين. فالرسالة في أصلها واحدة، وهي دعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبودية له. فمن كذب بها فقد كذب بالمرسلين أجمعين، فهذه دعوتهم أجمعين. والقرآن يؤكد هذا المعنى ويقرره في مواضع كثيرة، بصيغ متعددة، لأنه كلية من كليات العقيدة الإسلامية، تحتضن بها الدعوات جميعاً؛ وتقسم بها البشرية كلها إلى صفين: صف المؤمنين وصف الكافرين، على مدار الرسالات ومدار القرون. وينظر المسلم فإذا الأمة المؤمنة لكل دين وكل عقيدة من عند الله هي أمته، منذ فجر التاريخ إلى مشرق الإسلام دين التوحيد الأخير.
وإذا الصف الآخر هم الكفار في كل ملة وفي كل دين. وإذا المؤمن يؤمن بالرسل جميعاً، ويحترم الرسل جميعاً، لأنهم جميعهم حملة رسالة واحدة هي رسالة التوحيد.
إن البشرية لا تنقسم في تقدير المسلم إلى أجناس وألوان وأوطان. إنما تنقسم إلى أهل الحق وأهل الباطل. وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل. في كل زمان وفي كل مكان. وهكذا يتوحد الميزان في يد المسلم على مدار التاريخ كله؛ وترتفع القيم في شعوره عن عصبية الجنس واللون واللغة والوطن، والقرابات الحاضرة أو الموغلة في بطن التاريخ. ترتفع فتصبح قيمة واحدة. هي قيمة الإيمان يحاسب بها الجميع، ويقوّم بها الجميع.
{كذبت قوم نوح المرسلين. إذ قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون؟ إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين. فاتقوا الله وأطيعون}.
هذه هي دعوة نوح التي كذبه فيها قومه وهو أخوهم وكان الأليق بالأخوة أن تقود إلى المسالمة والاطمئنان والإيمان والتصديق. ولكن قومه لم يأبهوا لهذه الصلة، ولم تلن قلوبهم لدعوة أخيهم نوح إذ قال لهم: {ألا تتقون؟} وتخافون عاقبة ما أنتم فيه؟ وتستشعر قلوبكم خوف الله وخشيته؟
وهذا التوجيه إلى التقوى مطرد في هذه السورة. فهكذا قال الله عن فرعون وقومه لموسى وهو يكلفه التوجه إليهم. وهكذا قال نوح لقومه. وهكذا قال كل رسول لقومه من بعد نوح:
{إِني لكم رسول أمين}.. لا يخون ولا يخدع ولا يغش، ولا يزيد شيئاً أو ينقص شيئاً مما كلفه من التبليغ.
{فاتقوا الله وأطيعون}.. وهكذا يعود إلى تذكيرهم بتقوى الله، ويحددها في هذه المرة، وينسبها إلى الله تعالى، ويستجيش بها قلوبهم إلى الطاعة والتسليم.
ثم يطمئنهم من ناحية الدنيا وأعراضها، فما له فيها من أرب بدعوتهم إلى الله، وما يطلب منهم أجراً جزاء هدايتهم إليه، فهو يطلب أجره من رب الناس الذي كلفه دعوة الناس. وهذا التنبيه على عدم طلب الأجر يبدو أنه كان دائماً ضرورياً للدعوة الصحيحة، تمييزاً لها مما عهده الناس في الكهان ورجال الأديان من استغلال الدين لسلب أموال العباد. وقد كان الكهنة ورجال الدين المنحرفون دائماً مصدر ابتزاز للأموال بشتى الأساليب. فأما دعوة الله الحقة فكان دعاتها دائماً متجردين، لا يطلبون أجراً على الهدى. فأجرهم على رب العالمين.
وهنا يكرر عليهم طلب التقوى والطاعة، بعد اطئمنانهم من ناحية الأجر والاستغلال: {فاتقوا الله وأطيعون}.. ولكن القوم يطلعون عليه باعتراض عجيب. وهو اعتراض مكرور في البشرية مع كل رسول:
{قالوا: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون؟}..
وهم يعنون بالأرذلين الفقراء. وهم السابقون إلى الرسل والرسالات، وإلى الإيمان والاستسلام. لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة، ولا خوف على مصلحة أو وضع أو مكانة.


وقوم هود كانوا يسكنون الأحقاف، وهي جبال رملية قرب حضرموت من ناحية اليمن. وقد جاءوا بعد قوم نوح، وكانوا ممن زاغت قلوبهم بعد فترة من الطوفان الذي طهر وجه الأرض من العصاة.
وقد وردت هذه القصة في الأعراف مفصلة وفي هود، كما وردت في سورة المؤمنون بدون ذكر اسم هود وعاد. وهي تعرض هنا مختصرة بين طرفيها: طرف دعوة هود لقومه، وطرف العاقبة التي انتهى إليها المكذبون منهم. وتبدأ كما بدأت قصة قوم نوح:
{كذبت عاد المرسلين. إذ قال لهم أخوهم هود: ألا تتقون؟ إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر، إن أجري إلا على رب العالمين}..
فهي الكلمة الواحدة يقولها كل رسول: دعوة إلى تقوى الله وطاعة رسوله. وإعلان للزهد فيما لدى القوم من عرض الحياة، وترفع قيم الأرض الزائلة، وتطلع إلى ما عند الله من أجر كريم.
ثم يزيد ما هو خاص بحال القوم وتصرفاتهم، فينكر عليهم الترف في البنيان لمجرد التباهي بالمقدرة، والإعلان عن الثراء، والتكاثر والاستطالة في البناء؛ كما ينكر غرورهم بما يقدرون عليه من أمر هذه الدنيا، وما يسخرونه فيها من القوى، وغفلتهم عن تقوى الله ورقابته:
{أتبنون بكل ريع آلهة تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون؟}..
والريع المرتفع من الأرض. والظاهر أنهم كانوا يبنون فوق المرتفعات بنياناً يبدو للناظر من بعد كأنه علامة. وأن القصد من ذلك كان هو التفاخر والتطاول بالمقدرة والمهارة. ومن ثم سماه عبثاً. ولو كان لهداية المارة، ومعرفة الاتجاه ما قال لهم: {تعبثون}.. فهو توجيه إلى أن ينفق الجهد، وتنفق البراعة، وينفق المال فيما هو ضروري ونافع، لا في الترف والزينة ومجرد إظهار البراعة والمهارة.
ويبدو كذلك من قوله: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} أن عاداً كانت قد بلغت من الحضارة الصناعية مبلغاً يذكر؛ حتى لتتخذ المصانع لنحت الجبال وبناء القصور، وتشييد العلامات على المرتفعات؛ وحتى ليجول في خاطر القوم أن هذه المصانع وما ينشؤونه بوساطتها من البيان كافية لحمايتهم من الموت، ووقايتهم من مؤثرات الجو ومن غارات الأعداء.
ويمضي هود في استنكار ما عليه قومه:
{وإذا بطشتم بطشتم جبارين}..
فهم عتاة غلاظ، يتجبرون حين يبطشون؛ ولا يتحرجون من القسوة في البطش. شأن المتجبرين المعتزين بالقوة المادية التي يملكون.
وهنا يردهم إلى تقوى الله وطاعة رسوله، لينهنه من هذه الغلظة الباطشة المتجبرة:
{فاتقوا الله وأطيعون}..
ويذكرهم نعمة الله عليهم بما يستمتعون به ويتطاولون ويتجبرون، وكان الأجدر بهم أن يتذركوا فيشكروا، ويخشوا أن يسلبهم ما أعطاهم، وأن يعاقبهم على ما أسرفوا في العبث والبطش والبطر الذميم!
{واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون}.


إنها ذات الدعوة بألفاظها يدعوها كل رسول. ويوحد القرآن عن قصد حكاية العبارة التي يلقيها كل رسول على قومه للدلالة على وحدة الرسالة جوهراً ومنهجاً، في أصلها الواحد الذي تقوم عليه، وهو الإيمان بالله وتقواه، وطاعة الرسول الآتي من عند الله.
ثم يزيد ما هو من شأن ثمود خاصة، وما تقتضيه طبيعة الموقف وطبيعة الظروف. إذ يذكرهم أخوهم صالح بما هم فيه من نعمة (وقد كانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك) ويخوفهم سلب هذه النعمة، كما يخوفهم ما بعد المتاع من حساب على ما كان من تصرفهم فيه:
{أتتركون فيما ها هنا آمنين. في جنات وعيون. وزورع ونخل طلعها هضيم. وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين؟}.
وإنهم ليعيشون بين هذا المتاع الذي يصوره لهم أخوهم صالح. ولكنهم يعيشون في غفلة عنه لا يفكرون فيمن وهبهم إياه؛ ولا يتدبرون منشأه ومأتاه، ولا يشكرون المنعم الذي أعطاهم هذا النعيم. فيأخذ رسولهم في تصوير هذا المتاع لهم ليتدبروه ويعرفوا قيمته، ويخافوا زواله.
وفيما قاله لهم لمسات توقظ القلوب الغافية، وتنبه فيها الحرص والخوف: {أتتركون فيما ها هنا آمنين؟} أتظنون أنكم متروكون لهذا الذي أنتم فيه من دعة ورخاء ومتعة ونعمة.. وسائر ما يتضمنه هذا الإجمال من تفخيم وتضخيم.. أتتركون في هذا كله آمنين لا يروعكم فوت، ولا يزعجكم سلب، ولا يفزعكم تغيير؟
أتتركون في هذا كله من جنات وعيون، وزروع متنوعات، ونخل جيدة الطلع، سهلة الهضم حتى كأن جناها مهضوم لا يحتاج إلى جهد في البطون! وتتركون في البيوت تنحتونها في الصخور بمهارة وبراعة، وفي أناقة وفراهة؟
وبعد أن يلمس قلوبهم هذه اللمسات الموقظة يناديهم إلى التقوى، وإلى الطاعة، وإلى مخالفة الملأ الجائرين البعيدين عن الحق والقصد، الميالين إلى الفساد والشر.
{فاتقوا الله وأطيعون. ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}..
ولكن هذه اللمسات وهذه النداءات لا تصل إلى تلك القلوب الجاسية الجافية، فلا تصغي لها ولا تلين:
{قالوا: إنما أنت من المسحرين. ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين}..
إنما أنت ممن سحرت عقولهم فهو يهرفون بما لا يعرفون! كأنما الدعوة إلى الله لا يدعوها إلا مجنون!
{ما أنت إلا بشر مثلنا}.. وتلك هي الشبهة التي ظلت تخايل للبشرية كلما جاءها رسول. فقد كان تصور البشرية القاصر للرسول عجيباً دائماً؛ وما كانت تدرك حكمة الله في أن يكون الرسول بشراً، وما كانت تدرك كذلك تكريم هذا الجنس البشري باختيار الرسل منه ليكونوا رواد البشرية المتصلين بمصدر الهدى والنور.

1 | 2 | 3